بين يدي هذا الكتاب
تشهد المجتمعات الإنسانية اليوم، تزاحم الخطط الكثيرة والأساليب المتنوعة، على هدف واحد، رسمته قوى الشر المتغلبة، ودول البغي المتحكمة، وهو العمل على خنق القيم، وتحويل إنسانية الإنسان إلى ركام من الغرائز الحيوانية، ثم تسخير هذا الركام لتغذية عولمة الطغيان والاستعباد.
ولا يكاد الباحث يفرح بأيّ من هذه المنجزات العلمية والحضارية التي تتوالى، حتى تفجأه الخيبة إذ يرى أنها جميعاً تُساق مجنَّدة لهذا الهدف اللا إنساني المقيت؛ ولعلّ آخرها ظهوراً وتطويعاً لهذا الهدف، شبكة الأنترنيت.
غير أن العزاء الذي يأتي على غير توقع، ويتجلّى نتيجةً دون ظهور مقدمات، وغايةً دون أسبقيةٍ لأي خطط مرسومة، أنّ جل هذه المنجزات العلمية والحضارية، إن لم أقل كلها، تتأبّى في النهاية على ما يراد لها، وتشرد عن الأهداف التي تستخدم من أجلها، وتتحول إلى منبر حرٍّ تذاع منه كلمة الحق، وتسري منه إلى الأفكار والبصائر غذاء المعرفة الصافية عن الشوائب.
ومهما جُنِّدتْ للسموِّ بقذارة الباطل أعوانٌ وأسباب، فإن قصارى ما يمكن أن يبلغه سماسرة هذا الباطل وتجاره - بعد كل ما يبذلونه من جهد ويرسمونه من خطط - أن يراوحوا مع كل مسخَّراتهم هذه في أماكنهم، وأن لا يتحركوا إلا ضمن دائرة السنة الإلهية التي قضى بها الله عز وجل، في هذه الحياة الدنيا، ألا وهي استمرار الصراع بين الحق والباطل في كل الظروف والأحوال.
ولقد كان هذا الصراع قائماً ومستمراً طوال الأحقاب المنصرمة، وهو اليوم في ظلّ هذه المنجزات والمخترعات الجديدة، لا يزال مستمراً كما هو .. ولله عز وجل في ذلك حكمة كبرى، فصلت القول فيها، في كثير مما كتبت، ولا يتسع المجال هنا لإعادة الخوض في بيانها.
وحصيلة القول، أن قادة عولمة الطغيان، يخططون لأهدافهم التي يبتغونها، وما هي إلا أن تطفو خططهم ظاهرة على سطح الأحداث مهما استَخْفَوْا بها .. ومدبّر هذا الكون يخطط لقوانينه وسننه النافذة، داخل أنفاق خفية من الغيوب التي لا يعلمها إلا هو. وما هو إلا أن تستوعب هذه الثانيةُ الأولى!. فلا تتحرك خطط أقزام المكر والطغيان إلا في فلك الخطّة الربانية القاهرة، التي لا تراها! إلاّ من خلال نتائجها.
وتغدو عندئذ حركة هؤلاء الصغار، أشبه ما تكون بحركة أولئك الذين يسيرون على ظهر سفينة عملاقة، متجهين إلى الغرب، بينما السفينة تمخر بهم عباب البحر إلى الشرق!.. قد لا ترصد عين الناظر سير السفينة الكبرى وسط ذلك العباب الذي لا حدود ولا شطآن من حوله، بمقدار ما ترصد حركة أولئك الذين يركضون على ظهرها في اتجاه معاكس، ولكن ما من عاقل إلا ويعلم أنّ حركة هؤلاء الصغار مستهلكة في سير تلك المدنية العملاقة التي تمضي بهم إلى الهدف المرسوم.
* * *
كنت ممن تشاءم وتوجّس خيفة من غزو هذه الشبكة التي جاءت تحمل إلينا سموم الدنيا كلها، إذ كنت مأخوذاً ومشدوداً إلى تحركات الأقزام الصغار، وهم يعاكسون النهج الذي تنطلق بهم على أساسه، سفينة الخطط والتدبيرات الربانية التي كانت ولا تزال ماضية في تحقيق قوانين رب العالمين التي يأخذ بها عباده، دون أن أتبين سلطان هذه السفينة الكبرى التي تستوعب سائر التحركات الأخرى التي لا تتم إلا في قبضتها!..
ومرت الأيام .. ونظرت، وإذا بهذه الشبكة التي تكاد تبتلع العالم، ساحةٌ تفيض بالمنابر الكثيرة التي يعلو فوقها صوت الإسلام، تعريفاً به، ودعوة إليه، ودفاعاً عنه، وحلاًّ للمشكلات التي قد تثار حوله!.. ثم انتهى الأمر إلى حدّ لم أكن أتوقعه. فقد شاء الله أن ينشأ لي موقع في هذه الشبكة بين المواقع الإسلامية الكثيرة بحمد الله عز وجل. أناجي من خلاله الناس الذين يقبلون إليَّ من كل أصقاع العالم وجهاته، يتابعون خطبي المنبرية، ومحاضراتي الموسمية، ويبعثون إليّ بأسئلتهم واستشاراتهم واستفتاآتهم، فيضطرني الواجب الإسلامي إلى الإجابة عنها، على قدر علمي وفي حدود إمكاني.
كان نشاطي الإسلامي محصوراً داخل جدران قاعة من قاعات الجامعة، أو في رحاب مسجد، أو صالة مؤتمر، وإذا هو اليوم، بفضل هذه الشبكة، يمتّد سارياً إلى سمع الدنيا وبصرها!..
وليس لي أن أتجاهل ما تحمله هذه الشبكة من الآفات والسموم الكثيرة، ولكن يجب أن ألفت النظر إلى أن الأمر على صعيد هذه الشبكة لا يزيد على كونه مرآة لواقع الصراع الذي كان ولا يزال دائراً في ساحات المجتمعات الإنسانية كلها، منذ أقدم العصور، ما بين الخير والشر، والحق والباطل .. فشبكة الأنترنيت، شأنها كشأن الأقنية الفضائية من قبلها، وكشأن أشرطة الفيديو والكاسيت من قبلها، لم تفعل أكثر من أنها ترجمت وقائع هذا الصراع الجاري في العالم كله .. كان صراعاً يدور في مجالات ضيقة ومجتمعات أو ملتقيات خاصة، ثم انطلق بهذه الوسائل الحديثة ليعلن عن نفسه فوق منابر عالمية، يصغي إلى ما فيه من حوار وسجال سمعُ الدنيا كلها!..
وتلك هي السنة الإلهية الماضية، في المجتمعات الإنسانية إلى أن تقوم الساعة.
وبعد فإن ما ستقرؤه في هذا الكتاب، من مشورات جاءت تعقيباً على استشارات، وفتاوى جاءت جواباً عن استفتاءات، إنما هو من حصاد الأنشطة التي ساقتني إليها بالضرورة، صلتي الجديدة بالناس من أقصى الصين شرقاً إلى ما وراء المحيط الأطلسي غرباً.
وإن زخم الأسئلة والاستشارات كل يوم في ازدياد .. وتلك هي ضريبة هذه المنجزات العلمية والحضارية عندما ينهض المتحرقون على دين الله لتسخيرها في التعريف به والدعوة إليه.
آللهم اجعلني على مستوى هذه المسؤولية علماً وبصيرة أولاً، وإخلاصاً لوجهك ثانياً، وثباتاً على الحق إلى أن ألقاك ثالثاً. والحمد لله رب العالمين.
دمشق 22 جمادى الثانية 1422هـ
10 أيلول 2001م
محمد سعيد رمضان البوطي
إضافة تعليق