I- هل كانت النهضة العربية حلماً؟
إذا كانت مسألة النهضة هي إحدى أهم موضوعات الفكر العربي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإنّ السبعينيات من القرن العشرين أعادت الإشكالية للدرس من جديد، بعد أن ساد اعتقاد أنّ النهضة لم تتحقق في الواقع، وإنّما ظلّت حلماً تاريخياً ومشروعاً لم تحدّد آلياته ومفاهيمه. مثل هذا الاعتقاد يبدو أن له ما يشرّع له، إذا تذكرنا أن منطلق فكر النهضة كان قائماً في جانب أساسي منه على إدراك الفرق الهائل بين واقع العرب المعيش وبين الصورة التي يحملونها عن أنفسهم، وعن مكانتهم الفكرية والحضارية.
لاغرابة إذن، مع استمرار الفصام بين الواقع والمثال، أن رأينا غالب الندوات الفكرية واللقاءات التقويمية التي تلتئم وتنُشر في العقود الثلاثة الأخيرة بالبلاد العربية تعرض إلى النهضة بدرجات متفاوتة من الاهتمام والدرس، مؤكّدة على أن أسئلتها ما تزال قائمة بعد مرور قرنين، وخاصة منذ أن تبلور فكر النهضة على لسان روّادها وبأقلام مناصريها. لذلك حق لنا أن نسأل:
ماذا بقي اليوم من كل تلك الجهود التي بذلت؟
ماذا ترسخ منها في قيمنا ومؤسساتنا، عند نخبنا وفي مجتمعاتنا؟
سؤالنا هذا لايقرّ من جهة مقولة: النهضة حلم تاريخي، كما أنه غير موصول بهول الإحباط الذي يعصف بنا أحياناً أفراداً أو جماعات، إبان الأزمات الكبرى، وإثر الهزائم أو الخيبات الوطنية والقومية.
سؤالنا لاينفي ولا يهمل ما وقع إرساؤه منذ بدايات القرن التاسع عشر، إنه سؤال نقدي ينبني على اعتقاد راسخ بأهمية وقفات المراجعة، التي لامناص منها في كل سعي ينشد المجاوزة والإبداع.
لكن، هل يعني ذلك أن النهضة التي اعتُبرَت مشروعاً تاريخياً واجتماعياً قد اكتمل فيها من العناصر ما يسمح لنا أن نطلق عليه اسم مشروع، أو أنه تحقق منه ما لايسمح بأية انتكاسة مدمرة؟
إن من أهم منطلقات عملنا الحالي هو رفض الروح العدمية التي تنفي كل إنجاز نهضوي تمّ منذ قرنين من الزمن. في الوقت نفسه، نحن حريصون على تشخيص دقيق للوضع الفكري والحضاري بما يتيح لنا التعرف على طبيعة الإشكالية التي واجهتها النهضة عند قيامها، ثم ما اعترى هذه الإشكالية من اتساع بمرور الزمن ونموّ التجربة النهضوية. يغذي هذا الحرص وعياً بأن ما انتهينا إليه في البلاد العربية بخصوص مسألة النهضة لايشكّل ضمانة كافية، تحول دون التفكك والضياع خاصة في الظروف الجديدة للعولمة.
* * *
1- جذور الرسالة المؤسّسة
فرضيتنا في هذا العمل تقوم على أن النهضة العربية التي ظهرت منذ قرنين والتي تركزت مع التقاء الذات العربية المتشظية بأوربة صاحبة الريادة والسيادة، هذه النهضة كانت استعادة للحسّ النهضوي الذي تأسّس منذ قرون مع الرسالة المحمدية والذي ظل بارزاً في مفاصل معروفة باهتاً أو مستتراً في مراحل أخرى.
لذلك جاز القول بأن النهضة العربية الحديثة تأسست منذ أن فعّلت الذات العربية في القرن السابع الميلادي نفسها عن طريق الوحي. منذ ذلك التأسيس أصبح من الممكن المتاح استعادة فاعلية الوحي كلما تضافرت عناصر التراجع الحضاري والفكري، لتجمّد الخصوميات الثقافية للأمة. ذلك بالضبط ما تحقق منذ نهاية القرن الثامن عشر: رفض للإقرار بالاندحار الحضاري، لأن فاعلية الوحي تظل تعني في جانبها التاريخي إمكانية دائمة للنقض والتصحيح. من تلك البذرة القديمة انطلقت النهضة الحديثة، وليس نتيجة الصدام مع جيوش أوربة الغازية.
مثل هذا القول ينبغي أن يفهم بأن هاجس التغيير والتجاوز عند مفكري النهضة هو استئناف لهاجس ولوج التاريخ والفعل فيه الذي أسسه الوحي في النص القرآني. بتعبير آخر فرضيتنا في هذا المستوى تنطلق من اعتبار ما للالتزام النهضوي الحديث من علاقة مع الخصوصية الثقافية الإسلامية؛ إنها هي التي تفسره أكثر مما يفسره الصدام مع الغرب الغازي. في مستوى ثان تعتبر فرضيتنا أن الصياغة الأولى للحس النهضوي المؤسس، وكذلك الصياغة الحديثة له تقومان، برغم اختلاف ظروفهما التاريخية والحضارية، على قاعدة دينية - مدنية، لها تصور مركزي يحكمها أياً كانت الظروف والتوجهات. ما حصل في القرنين 19 و20 من أحداث سياسية واجتماعية لايمكن أن يحلل بمعزل عن البنية العقدية، أو الميتافيزيقية الفاعلة فيها. كذلك كان شأن كل الحراك الذي عرفه العالم القديم في القرن السابع وما تلاه من قرون ثلاثة.
مؤدى هذه المقولة أن كل حراك سياسي واجتماعي عربي هو ذو معنى ديني بالضرورة، فأهمّ ما عبّر عنه الوحي فكرياً هو تحويل الفضاء التاريخي إلى مجال متاح للإنسان يصوغ فيه مستقبله باعتبار أن تلك الصياغة هي إمكان تاريخي، يحيل على مفهوم للذات الإلهية باعتبارها مفارقة للعالَم المادي برغم حضورها وفعلها فيه.
ما كان لكل ذلك التمدن أن يتحقق، وكل ذلك الترقي الفكري أن ينجَز، وكل تلك العروش أن تتهاوى لولا التحوّل الذي أثّر في القاعدة الدينية - الميتافيزيقية العربية. كان هذا التحوّل قد تبنى مفهوماً جديداً للدين يقوم على تصوّر مغاير للعلاقة بين الله والإنسان، علاقة ذات طبيعة تكاملية استخلافية. ما اعترى المجتمعات المسلمة في ظروف لاحقة من تصدّع، وما أصاب مؤسساتها ومنجزاتها من خمود وتدهور، كل ذلك، وثيق الارتباط بالمناخ الديني الغالب، وبخاصة تصوّره للألوهية وما تحمله من دلالات تتميز بالاستلاب واللاتاريخية.
في هذا المستوى من الفرضية يمكن القول: إن مرجعية الحراك العربي منذ القرن السابع موصولة بطبيعة الخطاب الديني، وخاصة بتصوره للألوهية دون أن يعني ذلك من جانبنا تنكّراً لأي تأثير لعناصر موضوعية أخرى في صيرورة ذلك الحراك العام. لكن هذا لاينبغي أن يغيّب عنّا الفاعلية الخاصة للتصوّر الديني، وهو ما جعل الإنسان العربي يظل كائناً متديناً بالأساس، حتى وإن عبّر عن تنكّره الصارخ لتعاليم الشريعة أو شعائرها. لقد استمر متديّناً في أكثر من مستوى:
هو في مستوى أوّل مسكون بحسّ الفاعلية في التاريخ، ذلك النبض الذي لم يفتأ حياً بدرجات متفاوتة. ثم هو في مستوى آخر ظل دون تأسيس وعي مدنيّ يمكن أن يقطع مع منظومة القيم الدينية وتصورها المركزي، كما حصل في التجربة الغربية، بما يمكن أن يعيد بناء القيم وتنسيقها على قواعد جديدة. لذلك ظلّ إلى اليوم يترجم في عقله الاجتماعي عن الصورة التي يحملها عن العالَم ومعناه، وللإنسان وإرادته ومآله وعن طبيعة الحضور المتعالي في كل ذلك.
الدرجة الثالثة والأخيرة من فرضيتنا متصلة بضرورة التمييز بين الحس النهضوي وما ارتبط به من رؤية للعالَم وللإنسان، وبين ما يمكن أن نسميه نظرية النهضة، وهو ما يتولّد عن ذلك الحس وتلك الرؤية، وما يتخلّق عنهما من فكر للنهضة ومن اختيارات سياسية واجتماعية وأنماط تقنينية ومناهج تفسيرية. ترجع ضرورة هذا التمييز بين المجالين لما أوقعه التداخل بينهما من أخطاء فادحة في التقدير. أفضل مثال على ذلك تلك الجهود الضائعة للمدافعين عن الهوية والتراث، الذين لايرون فرقاً بين الأسس الثقافية للنهضة ومنظومتها القيمية، وبين فكر النهضة وما تركز معه من نظرية اجتماعية وسياسية. مثل هذا الخلط لا يتيح وضع الطرف الثاني في مستواه الحقيقي باعتبار أنه ليس إلا لبوساً للحس النهضوي، أي إنه إمكان تاريخي، وصورة من صوره لاغير.
يرجع هذا التمييز بين القوة التأسيسية للنهضة وبين فكرها المصاغ ضمن إحداثيات تاريخية إلى التصوّر القرآني للوجود، بأنه خلق يزداد ويرتقي بالتدرّج. مقتضى هذا التصوّر في المجال الفكري والاجتماعي هو أن التغيير أو التغيّر سُنة لاتتخلف، وأنّ كلّ جيل، وإن حرص على أن يهتدي بما ورثه من آثار أسلافه، ملزم سواء وعى ذلك أم لم يعه، أن يتجاوز ذلك التراث في تفكيره وحكمه، وحل مشكلاته الخاصة. غير أن هذا التوجه لم يجد السبيل ليتأصل، بل أضحى متعارضاً مع المنهج القياسي الذي جمَّد موقع الفقهاء وطاقاتهم الاجتهادية. هؤلاء بعد أن كانوا في طور أوّل من البناء الفقهي مدركين ما للواقع من شأن فميزوا بين الحدث الثابت ومعناه المتغير، متمثلين التصور القرآني للوجود وما يحمله من الإمكانات التاريخية، بعد ذلك أعرض المتأخرون منهم خاصة، لعوامل تاريخية واجتماعية، عن كل تمييز بين الحدث ومعناه، مما حوّل الواقع من ممكنات لاتتكرر إلى أمر ثابت إلى الأبد.
يمكن أن نقول إذن في نهاية توضيح فرضيتنا: إن النهضة العربية الحديثة انطلقت في المجالات الفكرية والاجتماعية والسياسية متجاوزة المنهج الفقهي الذي يكرر القول بالحلول التي قال بها السلف بطريقة آلية، والذي يرفض استحداث قيم جديدة تبدع الإجابات المختلفة بتفاعلها مع حركية المجتمع.
لذلك فلاعجب أن كان من أبرز منجزات النهضة العربية الحديثة استبدال النخب القديمة بعد تهميشها. هكذا ظهرت شخصية المثقف العربي منذ الثلث الأول للقرن العشرين، مستمدة شرعيتها من الوعي المتنامي بضرورة استبدال ريادة الفقيه والصوفي بزعامة أخرى وخطاب آخر.
……
إضافة تعليق