مقدمة
ما نعرف وما لا نعرف؟
لم يخطر لي يوم سعيت إلى تركية عام 1950م، لألتحق بجامعة إستنبول لدراسة الطب، كما سبقني إلى ذلك عدد من مواطني بلدي حلب؛ أني سأسخر القلم لغير البحث وطلب العلم. كنت أظن أني أعرف كل شيء عن هذه الدولة الجارة التي تربطنا بها وشائج تاريخية وثقافية، ونشترك معها جغرافياً بحدود طويلة طويلة. إلا أني ما لبثت أن فزعت إلى القلم أستعين به على تدوين بعض الملاحظات التي وجدتني في حاجة إلى أن أضيفها إلى ما كنت أعرف، وخلصت من تدوين الملاحظات إلى نتيجة عجيبة، وهي أننا لم نكن نعرف عن تركية شيئاً مذكوراً! لقد وجدت صعوبة في إحصاء الكتب التي وضعها الغرب، وأشبع بها الأتراك في حاضرهم وماضيهم دراسة وتحليلاً. إلا أنني حينذاك لم أعثر على كتاب واحد في العربية، يتعرض لدراسة هؤلاء القوم الذين سطروا في تاريخنا صفحات حافلة بالأحداث. فسارعت عقب تخرجي عام 1956م إلى وضع مخطوط عن تركية في مئتي صفحة حالت الظروف دون نشره، ذكرت في مقدمته: ((إن الأتراك في انتظار الفرصة السانحة، ليضيفوا إلى تلك الأحداث في المستقبل صفحات أكثر خطورة وأبعد أثراً. وأنه لا يكفي أن نضع تركية في موضعها الملائم بين الأصدقاء أو الأعداء، وإنما نحن في حاجة إلى أن نرقبها عن كثب فندرس التطورات التي تقلبت عليها، والمقومات التي تستند إليها، والعوامل الفاعلة التي تحركها، لنستطيع أن نكشف بذلك ما يخفى علينا من أمور قد يكون لها شأن خطير في الغد القريب)).
وها نحن الآن في أواخر القرن العشرين وعلى مشارف قرن آخر، في مواجهة مع تركية بسبب النزاع على الماء ومشكلة الأكراد.. وكعادتنا اجتاحتنا حمى الكتابة عن تركية، كتابة أكثر ما نشر منها حتى الآن إنما كتب على عجل، فجاء سطحياً ضحلاً، الدافع التجاري فيه واضح صارخ، والقليل الجاد تغلب عليه العاطفة ويفتقر إلى الموضوعية ويجنح إلى المبالغة؛ مما يحجب عنا الحقائق، ويدخلنا في متاهات لا تعود علينا بأية فائدة.
إن هذا الكتاب لا يؤرخ للدولة العثمانية أو التركية، وإنما هو كتاب يتناول بالدراسة والبحث الصراعات التي تدور فيها، والنـزاعات التي تتفجر داخلها، والتيارات التي تتقاذفها؛ لنلقي الضوء على مفاتح السياسات التركية، ومن يقف وراء تلك الصراعات والعوامل المحركة والقيادات، لنكون لأنفسنا رؤية واضحة، ونضع خطة سليمة للتعامل مع تركية، خالية من الأخطاء والمغالطات، وتقوم على أسس راسخة، ننشئ بها علاقات مع تركية بموضوعية وواقعية وعقلانية، تليق بأمتين متجاورتين، تجمع بينهما علاقات تاريخية وثقافية وعقائدية، من المفترض أن تكون سبيلاً للقاء بدلاً من الفرقة، والصداقة بدلاً من العداوة، والوفاق والتعاون بدلاً من النـزاع والتناحر.
تمهيد
لـماذا؟
لماذا أضع كتاباً عن أحداث الدولة العثمانية؟ أهو حنين إلى فترة الحكم العثماني، أم ترويج لإعادة تجربته؟ هل هناك من بين الأتراك والعرب أو الشعوب التي كانت منضوية تحت اللواء العثماني من يتمنى أن يعيد التاريخ نفسه، وأن تقوم إمبراطورية تجمع شمل هذه الشعوب مرة أخرى؟
يقول (ونستون تشرشل): ((نحن ندرس الماضي، لنفهم الحاضر، ونخطط لبناء المستقبل)).
إن في تجربة الدولة العثمانية سابقاً وتركية لاحقاً، لعبرة وخبرة ودرساً. عبرة لدعاة العلمانية المضادة للدين، الذين يضربون المثل بتركية، ويدعون بعض عرّابيها إلى ندوة سنوية تقام في بلد عربي؛ ليصموا آذاننا بأقوال عارية عن الصحة وأفكار بعيدة عن الواقع، بينما نشهد فشل كل المحاولات على مدى سبعين عاماً لسلخ الشعب التركي عن دينه والنيل من حرصه على مقدساته.
ودرس نتلقاه وخبرة نكتسبها من المؤامرات التي كانت تتخلل الصراع بين الشرق والغرب، وتحاك من قبل الغرب والصهيونية والماسونية، ويجند فيها من الداخل الدونمه وبعض مواطني البلاد لتحقيقها. تلك المؤامرات المستمرة حتى اليوم في شكل ما يسمى بـ (العولمة Globalization)، التي خرجت بها أمريكا لخلق عالم القطب الواحد، ويدور فيه الصراع بين الولايات المتحدة والمجتمع الأوربي اقتصادياً، وبين أمريكا والعالم الثالث عامة والدول العربية والإسلامية خاصة: اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
الباب الأول
الصراع بين الشرق والغرب في تركية
الصراع بين الشرق والغرب هو مفتاح السياسة التركية منذ منتصف فترة الحكم العثماني. يشدها إلى الشرق جذور عرقية وأصول تاريخية وجغرافية، وعوامل عقائدية وثقافية. فالأتراك جزء من عشيرة تركية كانت تقطن تركستان في أواسط آسيا، دفعها الخوف من غزوات جنكيزخان وزحفه نحو أرضهم على شتات العديد من أفخاذها غرباً وشرقاً، ليستقر بعضها في إيران والبعض الآخر في شمال العراق، وآخرون غذوا السير ليستقروا في قفقاسيا. إلا أن عشيرة صغيرة لا تتجاوز خمسة الآلاف تسمى (قايا) استمرت في الاتجاه غرباً بزعامة سليمان شاه ويلقب أيضاً بـ (كندوز ألب) لتعبر نهر الفرات في الأرض السورية عند موقع قلعة جعبر الذي يبعد عن بلدة الرقة خمسة وثلاثين كيلو متراً. ويبدو أن العبور كان بوسائل بدائية بسيطة مما نجم عنه غرق العديد من أفراد العشيرة بما فيهم زعيمهم سليمان شاه، فانتشلوا جثته ودفنوه بجانب قلعة جعبر. وانقسمت العشيرة إلى قسمين: قسم صغير تشاءم من الحادث وعاد أدراجه برئاسة أحد ولدي سليمان شاه: دويدار إلى أواسط آسيا. وأكملت بقية العشيرة هجرتها بقيادة ولده أرطغرل لتستَقر في شرق الأناضول في رقعة محدودة أقطعها لها سلطان قونيه السلجوقي، جزاءً للأتراك لمساعدتهم له في حربه مع جلال الدين خوارزمشاه خاقان تركستان، وليشكلوا درعاً واقياً بين سلطنته وبين الإمبراطورية البيزنطية، لما لمسه السلطان من قوة شكيمتهم وشدة بأسهم وبسالة محاربيهم. لقد كان ذلك حوالي عام 1250م. وما لبث أن توفي أرطغرل فخلفه من بعده ولده عثمان الذي يعتبر مؤسساً للدولة العثمانية وسميت باسمه. استطاعت هذه العشيرة أن توسع رقعتها بقيادة عثمان ومن بعده ولده أورهان، ومن خلفهما من الأبناء والأحفاد، وذلك بغزوات على الإمبراطورية البيزنطية وحروب مستمرة معها، لتحتل في غضون مئتي عام جميع الأرض التي تقوم عليها تركية اليوم، ولتهدد عاصمة بيزنطة آنذاك القسطنطينية، ومن ثم لتفتحها بجيش جرار متطور بقيادة السلطان محمد بن مراد الثاني الذي لقب بالفاتح، وتحولت القسطنطينية إلى واحدة من حاضرات العالم الإسلامي، وأطلق عليها اسم إسلام بول أي إسلام كثير، لتتحول التسمية على مدى القرون إلى إستنبول.
إضافة تعليق